اتخاذ الأسباب والتمكين في الأرض، هما السمة البارزة في قصة الحاكم الصالح ذي القرنين.
وإن كنا لا نعرف من هو تحديدا إلا أنه عبد أعطاه الله تعالى العلم والحكمة، وألبسه الهيبة والوقار، فما يخبرنا القرآن عنه أنه رجل مؤمن، مكّن له الله في الأرض، وهيأ له أسبابه، ويسر فتوحاته.
لقد بلغ ملك ذي القرنين تمام القدر المعمور من الأرض، فوصل إلى أقصى المغرب بدليل قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة) “الكهف: 86” وأيضا بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله عز وجل: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) “الكهف: 90”.
بدأ ذو القرنين التجوال بجيشه في الأرض، ليس طلبا للملك، ولا استعلاء على خلق الله، ولا سحقا للشعوب الضعيفة، بل داعيا إلى الله، مطبقا لمعاني الحق والعدل والمساواة.فاتجه غربا، حتى وصل إلى المكان الذي تبدو فيه الشمس وكأنها تغيب من ورائه، وربما يكون هذا المكان هو شاطئ المحيط الأطلسي، حيث كان يظن الناس ألا يابسة وراءه.
وهنا أوضح الملك الصالح منهجه في الحكم، والذي يقوم على إعلاء شأن الصالحين وتقريبهم فأعلن أنه سيعاقب المعتدين الظالمين في الدنيا، أما من آمن فسيكون محل إكرامه.
يأجوج ومأجوج
بعد أن انتهى ذو القرنين من أمر الغرب، توجه إلى الشرق فوصل إلى أول منطقة تطلع عليها الشمس، وكانت أرضا مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفعات تحجب الشمس عن أهلها. فحكم ذو القرنين في المشرق بحكمه في المغرب نفسه، ثم انطلق ووصل في رحلته، إلى قوم يعيشون بين جبلين أو سدّين بينهما فجوة، (حتى إذا بلغ بين السدين): أي الجبلين، (وجد من دونهما) أي السدين: قال ابن كثير: “هما جبلان متناوحان - متقابلان - بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادا ويهلكون الحرث والنسل”.
(قوما لا يكادون يفقهون قولا ): أي أمة من الناس لا يفقهون أقوال ذي القرنين لقلة فطنتهم، وبعدهم عن لغات غيرهم، ( قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) أي اشتكوا إلى ذي القرنين من ظلم هذين الشعبين الظالمين يأجوج ومأجوج الذين أفسدوا أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر.
(فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) أي: أجرا عظيما ومالا جزيلا تأخذه منا بطيب نفس بغرض أن تبني لنا سدا بيننا وبين أعدائنا المفسدين، ولتأدبهم في عرضهم المال على ذي القرنين استخدموا أسلوب الاستفهام.
قال القرطبي: “في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه.
فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح: (قال ما مكني فيه ربي خير) أي أن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام (أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم. بل أنتم بهديتكم تفرحون) “ سورة النمل: 36” وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه.
(فأعينوني بقوة): أي ساعدوني بالأيدي العاملة.
بناء السد
استخدم ذو القرنين وسيلة هندسية مميزة لبناء السّد، فقام أولا بجمع قطع الحديد ووضعها في الفجوة حتى تساوى الركام مع قمتي الجبلين، ثم أوقد النار على الحديد وسكب عليه نُحاسا مذابا ليلتحم وتشتد صلابته، فسدّت الفجوة، وانقطع الطريق على يأجوج ومأجوج، فلم يتمكنوا من هدم السّد ولا تسوّره، وأمّن الضعفاء من شرّ الآثمين الأقوياء.
بعد أن انتهى ذو القرنين من هذا العمل، لم يسكن الغرور قلبه، فنظر إلى السد وحمد الله على نعمته، وردّ الفضل والتمكين والتوفيق إلى الله وحده.
نعم خاض ذو القرنين حروبا، لكنها استهدفت كرامة الإنسان وتخليصه من الشرك والخرافة، وإزالة الظلم وإقامة العدل في دنيا الناس.
جاء في تفسير الظلال “وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين، الأنموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغُنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه، إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله.
منقول